هكذا
الوفاء
الوفاء
: كلمة رقيقة تحمل جملة من المعاني
الجميلة :
فالوفاء
يعني : الإخلاص .
والوفاء
يعني : لا غدر ولا خيانة .
والوفاء
يعني : البذل والعطاء .
والوفاء
: تذكّر للود ، ومحافظة على العهد .
وقد
أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود فقال
سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود } – المائدة 1 - ، ومن أوثق
العقود التي يجب الوفاء بها : عقد
النكاح ، وشروطه أولى الشروط بالوفاء
.
جاء
في الحديث : (( أحقُّ الشروط أن
توفُّوا به ما استحللتُم به الفروج ))
رواه البخاري ، من حديث عقبة بن عامر
رضي الله عنه .
والوفاء
بين الزوجين الذي أودُّ الحديث عنه
هنا لا يقتصر على الالتزام بأمر شرطه
أحد الطرفين على الآخر حين العقد ، بل
يتعدّاه ليشمل كل معنى جميل تشمله
كلمة الوفاء .
فهو
يشمل تفاصيل الحياة بين الزوجين ؛
ليعيش كل منهما وهو يحمل في قلبه حباً
ووُدّاً ورحمة وتقديراً وإخلاصاً لا
متناهياً تجاه الطرف الآخر .
فالوفاء
يعني : البذل والعطاء والتضحية
والصبر ، وذلك بالاهتمام بمن كنت
وفياً به ، والحرص عليه ، وعدم
التفريط فيه ، والخوف عليه من الأذى ،
ومراعاة شعوره وأحاسيسه ، وتقدير
جهوده ، والشكر لصنائعه ، وعدم إفشاء
سره ، والحفاظ على خصوصياته ، والعمل
على إسعاده ، والثناء الحسن عليه ،
وذكر محاسنه ، وتجاهل أخطائه ،
والذكرى الجميلة لعهده وأيامه بعد
فراقه .
فليس
مع الوفاء ترصُّد ، ولا تصيُّد ، ولا
إساءة ، ولا ظلم ، ولا نكران ، ولا جرح
، ولا قدح ، ولا .. ولا..
والوفاء
بمفهومه الشامل الذي أوضحناه لا
يتحقق إلا إذا كان بناء هذه العلاقة
منذ البداية سليماً متيناً راسخاً ،
يقوم على مبادئ ، ويسعى لتحقيق أهداف
.
فمن
تزوج للجمال فقط ، تلاشى الوفاء في
علاقته عند فقد الجمال .
ومن
تزوج للمال فقط ، ضاع الوفاء مع فقد
المال .
لكن
من كانت الأولوية عنده في هذا العقد
والعهد للدين والخلق ، مراعياً قول
خير البرية صلى الله عليه وسلم : ((
فاظفر بذات الدين )) ، وقوله : (( إذا
أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه )) ،
فحري بهذا أن ينعم بالوفاء والهناء .
إن
قضية الوفاء لا تتحقق إلا إذا تضافر
لها ثلاثة عناصر : الحب ، والإنسانية
، والإيمان ، فالحب محرِّك الوفاء ،
والإنسانية ضمانه وبها استمراره ،
والإيمان هو الضابط له ، وبه يكمل
ويربو .
وبين
يديك الخطوط العريضة لمعالم الوفاء
بين الأزواج رسمها لك سيد الأوفياء
عليه الصلاة والسلام ، من جعله الله
تعالى الأسوة الحسنة ؛ ليستنير بهديه
ويسير على دربه المؤمنون .
أخرج
البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله
عنها قالت : ما غِرْتُ على أحد من نساء
النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ
على خديجة ، وما رأيتُها ، ولكن كان
النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِر من
ذِكْرِها ، وربما ذبح الشاة ثم
يُقَطِّعُها أعضاء ، ثم يبعثها في
صدائق – أي : صديقات – خديجة .
فربما
قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة
إلا خديجة !
فيقول
: (( إنها كانت ، وكانت ، وكان لي منها
ولد )) .
فصلَّى
الله وسلَّم على أكرم الخلق ، وحافظ
العهد .
فقد
كان صلى الله عليه وسلَّم وفياً
لخديجة في حياتها ، ووفياً لها بعد
وفاتها ، فهو يذكر أعمالها وأخلاقها
، وأيامها وعهدها ، رضي الله تعالى
عنها .
كيف
لا ، وهي التي آثرته ورغبت فيه ، وهي
أول من صدَّقه وآمن به ، وهي التي
ثبَّتَتْ فؤاده وقوَّت عزيمته ،
وكانت البلسم الشافي لآلامه وأحزانه
.
هي
التي واسته بمالها ، وهي التي رزق
منها الولد ، وهي التي حفظت عهده ،
وحافظت على بيته وولده ، وهي .. وهي ..
فنالت
بسبب هذا الوفاء العظيم ما جاء في
الحديث الشريف : (( بشِّروا خديجة ببيت
في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب ))
رواه البخاري .
وعند
الطبراني من حديث فاطمة رضي الله
عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، أين
أمي خديجة ؟ فقال : (( في بيت من قصب )) .
قلت : أمن هذا القصب ؟ قال : (( لا ، من
القصب المنظوم بالدرِّ واللؤلؤ
والياقوت )) .
قال
السُّهَيلي : (( النُّكْتة في قوله ((
من قصب )) ولم يقل : من لؤلؤ : أن في لفظ
القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب
السَّبْق بمبادرتها إلى الإيمان دون
غيرها )) .
وقال
ابن حجر : (( وفي القصب مناسبة أخرى من
جهة استواء أكثر أنابيبه ، وكذا كان
لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها ؛
إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ،
ولم يصدر منها ما يغضبه قط ، كما وقع
لغيرها )) .
وقابل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاءها
بوفاء أعظم منه ، فكان من وفائه لها :
1-
الحزن الشديد على فراقها ، كما جاء
عند الحاكم من حديث حبيب مولى عروة .
2-
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لها :
أنها كان يصرِّح بحبه لها حتى بعد
وفاتها .
ففي
حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن
حبان : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (( إني رُزِقْتُ حبَّها )) يعني :
خديجة .
3-
الإكثار من ذكرها ، كما تقدم : (( إنها
كانت وكانت )) يذكر ماذا ؟!.
إنه
يذكر محاسنها : إيمانها وتصديقها ،
وثباتها وتثبيتها ، إنه يذكر أخلاقها
الفاضلة ، وعاداتها الجميلة ،
والتزامها ، وأدبها ، واحترامها ،
وحسن عشرتها ، إنه يذكر بيتها الهادئ
، وحياته الهانئة معها ، ويذكر ويذكر
.
وهذا
هو الوفاء العظيم الذي ينبغي أن يسير
عليه كل من اتَّخذ المصطفى صلى الله
عليه وسلم قدوته .
فإن
كان ثَمَّ أخطاء للزوجة ، فإن مسلك
الأوفياء : تجاهل الأخطاء ، والتجاوز
عنها ، وعدم إفشائها ونشرها ، مع
مراجعة الذاكرة للبحث عن المحاسن
والإيجابيات .
قال
صلى الله عليه وسلم : (( لا يَفْرَكْ مؤمن
مؤمنة – أي : لا يبغض –، إن كره منها
خلقاً ، رضي منها آخر )) رواه مسلم من
حديث أبي هريرة .
وصدق
القائل :
ومن
ذا الذي تُرْضَى سجاياه كلُّها
كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ
معايبُه
4-
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لخديجة
: أنه كان يَبَرُّ صديقاتها ومن
يحبُّها ، ويهتمُّ بهنّ حتى بعد
وفاتها ، يذبح الشاة ويقطّعها ثم
يرسلها إليهن .
وكان
يصل الواحدة منهنَّ بالهدايا
المختلفة ، فقد أخرج ابن حبان من حديث
أنس رضي الله عنه قال : كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا أُتِي بشيء قال : ((
اذهبوا به إلى فلانة ، فإنها كانت
صديقة لخديجة )) ، ولفظ الحاكم : ((
اذهبوا به إلى فلانة ؛ فإنها كانت تحب
خديجة )) وما ذاك إلا وفاء لخديجة ،
وبراً بها ، وحباً لها ، وإحياء
لذكراها الجميلة على قلبه الشريف صلى
الله عليه وسلم .
5-
ومن وفائه لها : أنه أكرم امرأة زارته
بعد وفاتها ؛ لصلتها بها ، وما ذاك
إلا وفاء لعهدها .
أخرج
ابن عبد البر من حديث عائشة قالت :
جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال لها : (( من أنت؟ )) فقالت :
أنا جثامة المزنية . قال : (( كيف حالكم
؟ كيف أنت بعدنا ؟ )) . قالت : بخير ،
بأبي أنت وأمي يا رسول الله .
فلما
خرجت قلت : يا رسول الله ، تُقْبِلُ
على هذه العجوز هذا الإقبال ؟! فقال : ((
إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، وإن
حسن العهد من الإيمان )) .
وفي
بعض الروايات أن هذه العجوز هي أم زفر
ماشطة خديجة .
6-
ومن وفائه لها : أن كان يذكر أيامها ،
ويثني عليها ، ولا يرضى من أحد أن
يتكلم عنها بمكروه .
أخرج
أحمد من حديث عائشة قالت : ذكر رسول
اله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة ،
فأطنب في الثناء عليها ، فأدركني ما
يدرك النساء من الغيرة ، فقلت : لقد
أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من
عجائز قريش حمراء الشدقين . قالت :
فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم تغيُّراً لم أره تغيَّر عند شيء
قط ... الحديث .
وكان
يكثر من ذكرها ويبالغ فيه حتى قالت
عائشة : (( كأنه لم يكن في الدنيا امرأة
إلا خديجة )) .
تلك
هي معالم الوفاء التي ينبغي أن تبنى
العلاقات الأسرية على أساسها ،
تلمّسناها من هدي المصطفى عليه
الصلاة والسلام سيد الأوفياء .
فحري
بأهل الإيمان أن يكون الوفاء شعارهم
، وعنوان حياتهم ، ليحققوا السعادة ،
ويهنئوا بالحياة .